samedi 26 septembre 2009

تاكسي الغرام

حاولت أن أنسى ذلتي وأنا أرتشف كوبا ثانيا من السحلب على أحد كراسي مقهى ولي النعم، وراقبت سير الشباب يصعدون وينزلون الدرب المؤدي إلى شارع المعز لدين الله . حتى الآن، كان نهاري انقضى زفتا في زفت. غزوتي إلى سينما الشرق في السيدة زينب كانت قد باءت بفشل ذريع، وأنا المسؤول الوحيد عن الكارثة. والسبب، بكل بساطة، أني لم أعط بقشيشا لعامل الصالة كما كان ينبغي . عذري أنها كانت زيارتي الأولى لسينما الشرق، بؤرة مغرية من الفساد العذب المناداة رقيق . دخلتها كما يدخل سائح أحد الجوامع التاريخية، بشيء من التهيب مشوب بالاندفاع المرح. كنت آتيا من الميدان السابح في الشمس، وعندما ولجت الصالة المظلمة، التي تزيد من عكر جوها تلافيف الدخان المتطاير من سجائر المتفرجين، وجدتني كوطواط مفزوع أتخبط بين الكراسي وأرجل الجالسين. انتابني في الحال هذا الرعب الذي جرّبه كل واحد منّا يرتاد صالات الدرجة الثالثة: «وما لو كان الواد الحليوة المعجباني الذي ينتظرني وأنتظره قد ملّ قعدته ويتهيأ للخروج وسيفلت من مخالبي بسبب عماي المؤقت؟» أخذت أغمض وأفتح عيني محاولا تسريع عملية التأقلم على الضوء الشحيح، وأتلفت يمنة ويسرة في لهفة، بحثا عن فريسة أفترسها أو غازٍ يتصيدني. بعد دقائق بدت لي قرونا، لاحت في السواد بقعة خضراء غامقة شعرت أنها ولا ريب تنذر ببدلة ميري، فدنوت من هذه الخضرة المنعشة. أجل، كان في الصالة عسكري، يجلس منجعصا كفتوة في أحد الصفوف الأخيرة . وعندما تعودت عيناي على الظلام وأخذت تتبين الأشكال، حين تحولت الأشباح إلى ظلال ووجوه غامضة، أيقنت أنه المنى والطلب.


لم يكن مجرد عسكري مصري، بل كان الــــــــــــــــــــــــــــــــــعسكري المصري تملأ العبارة فاك ملأً وتلفظها بإجلال لا يمتّ إلى أمجاد الجيوش النيلية بصلة قريبة أو بعيدة، بل إلى هذه الفتنة الغريبة التي يحدثها في أحشائنا ظهور أي زي عسكري . كان هو الذي كافح الهكسوس وجيوش قيصر، وجاهد في جند عمرو بن العاص، وغلب على الإفرنج في حطين ثم واجه بونابارت على قدم الهرم، وهو الذي كتب الله اكبر بدمه على العلم الرفراف أثناء العبور. وعمره عشرون عاما، عشرون عاما أزليا، سن موقوفة معلقة، سن فتية دان الزمان لهم فما يصيبهم إلا بما أشاءُ أنا. كانت بدلته الميري الكاكي مهترئة متنسلة، ذات خيوط مدلدلة وسحابة مكسورة نصف مفتوحة، ورأيتها رغم تآكلها درعا من ذهب.


كنا قد تبادلنا الأنظار، وعلم أني أتيت للاستسلام. نهض واتجه إلى دورة المياه ومكث فيها مدة . أدركت أخيرا أنه ينتظرني هناك، ولكن عندما قمت بدوري للالتحاق به، لمحته خارجا منها يبحث عن مقعد آخر. فتبعته وجلست على بعد مقعدين منه، استرق النظر إليه وتلتقي نظراتنا أحيانا. كان قد اختار أحد الصفوف الأمامية والضوء المنبعث من الشاشة كان يمنع القيام بأي عملية جريئة. فطن إلى صعوبة الموقف، وقام مرة أخرى. نهضت وراءه، كفرعون يقتفي آثار موسى في بحر من الظلام، تشق دياجيه أشعة ملونة راقصة تصدر عن المنوار، مصحوبة بصوت نادية الجندي الردّاح يغطي على صرير خطانا. انتقى الجندي مقعدا في وسط الصالة، حيث كان ظل البلكونة فوقنا يمدّنا بظلام كريم يؤوي غرامنا ويستر بلاوينا.


كل ذلك وبتاع الشاي واللب، الذي كنت قد امتنعت عن شراء أطاييبه، مترصدٌ متربصٌ يعي بكل تحركاتي الاستراتيچية، وإذا به أشد تحفزا على القيام بدور العذول من ذي قبل. عندما اقتعدت الكرسي المتاخم لكرسي قاهري، أخذت أحكّ ساقي على ساقه فمدّ إليّ يده ردّاً. غمرتني هذه الحركة المفاجئة الرومانسية الساذجة بسرور ربيعي وثّاب. ظللنا جالسين، اليد في اليد نتلامس، كل واحد يغوص في ابتسامة الآخر، نضغط على أصابعنا المتشابكة، نداعب راحتينا، يمتزج العرق والدفء وجلد اليد البض يصبح كناية عن نعومة البشرة المستورة المرجوة ويوحي بها. كان من الممكن أن تدوم جلستنا ساعات طوالا، أن يقف الزمن مراعاة ومداراة لنا. كان ما نحن فيه يكفينا. كنا على يقين أننا سنمارس طقوس الوصال فيما بعد، ولكن في هذه اللحظة، بدت الديباجة أحلى وأمتع من المتن المتوقع.


وفجأة، أزفت الآزفة ووقعت الواقعة. بتاع اللب المحروم من «الحلاوة» المنتظرة أدرك أنّ الأوان قد آن للأخذ بثأره. وقف أمامنا وقال بصوت عال، متأكدا من أن حديثه سيسمع في كل زاوية من زوايا سينما الشرق، من كشك بائع التذاكر إلى أنأى كرسي في البلكونة:

- أنا مش عارف الواد ده عايز العسكري ده بالذات ليه!


فضحكوا كلهم. السينما برمتها، كل الخولات في الصف الأخير كفوا عن استهتارهم الفاحش وانفجروا مقهقهين، ساهين عن العضو الذي كانوا يلهون به منذ ثوانٍ، كل الناكين والمنتاكين عزفوا عن الجماع في كبائن دورة المياه، كل التلاقيح والبلطجية أخرجوا سيجارة الكيلوباطرة من أفواههم المفترّة عن أسنان مصفرّة ليضحكوا على الخول الغبي الذي طارد العسكري بين أطراف الصالة الأربعة وضبطه عمّ شلبي بتاع اللب متلبسا. فغدر بي الجندي. قال بنبرة الآمر الناهي وهو يتظاهر بالسخط :

- امشي بعيد!

فقمت ومشيت صوب الباب متباطئا متلكعا، لعل بطئي المصطنع يغرّ المتفرجين فيبحثون عن مخلوق فزع راكض. طبعا، لم تنجح محاولتي صون ماء وجهي المحمرّ احمرارا مشعا، فشعرت على قفاي وخزات عشرات الأنظار الساخرة.


كان الليل قد أسدل ستاره القليل نفعه عندما خرجت، فقررت أن الطريقة الوحيدة لغسل آثار الهمجية كوب سحلب في الحسين... وها أنا جالس، انتهيت من شرب كوبين، أتساءل أليس من الأنسب شرب قهوة سادة حدادا على هذا اليوم الضائع. لم يكن يوما ككل الأيام، كان اليوم الأخير، كان المفروض أن أعود إلى أوربا في الصباح، حيث سـأعيش محروما من تلك الكائنات النورانية التي نرزق بها في مباءات الفسق، أبناء الحلال الذين نذوق حرامهم ويتعلق بنا نكهته طويلا، يغذي خيالنا شهورا. سنة كاملة حرمانا من هذه العيون الجريئة التي تسبر أغوارك وتكشفك في ثانية ثم تضحك متسائلة أتنجرف وراءك جرفا أم تتعزز وتدّعي عدم الاكتراث، هذا المساء الأخير سيحدد فأل السنة. تطيرت من إمكانية الفشل. كنت قاطنا شقة في حارة متفرعة من شارع الملك فيصل، في الطرف الآخر من المدينة الكبرى. هل يجوز أن أبيت دون اقتراف أي إثم ؟ في شَرْع مَن استُحلّ أن أسافر في الصباح المبكر وقد ضاعت ليلتي عديمة الخلاعة؟ كان علي قطع المدينة كلها وأمامي ثماني ساعات لا بد من توظيفها بأكمل وجه مكمن.


مشيت ببطء نحو موقف الأوتوبيسات في شارع الأزهر، أخطو خطوة إلى الأمام واثنتين إلى الوراء كلما صادف عيني وجه وسيم، كلما برزت شوارب لامعة تسطر عينين براقين، كلما استشففت نتؤا من الأمام أو من الخلف، تورما أستطيع تخمينه وراء سوستة البنطلون البنفسجي الفاقع، طيزا مجدولة تخالها سمراء مشعرة تملأ اليدين، محندقة محزّقة في بنطلون من القماش الأسود الخفيف، شعر الصدر الذي يفيض من القميص المشجّر (الذي يصعقك ذوقه الواضح الجَلفَنة، ويؤكد في آن واحد ذكورة صاحبه، إذ يكون من رابع المستحيلات أن يرضى خول عن ارتدائه ولو على حساب حياته). حاولت أن أشبع من هذه المناظر، أسكر منها لا أقنع ولا أنقع ولا ظمأي يشفى.


استوقفت سيّارة أجرة وتهيأت مكرها للاعتراف بالهزيمة، إذ وضعت أناملي على مقبض الباب كمن يمسك بصرصار مدهوس قبل إلقائه في صفيحة الزبالة. قبل دخول التاكسي، تفرّست في وجه السائق الناشف المجعد، عجوز يلبس جلبابا أبيض، على رأسه طاقية مطرزة ؛ ألصقت على لوحة القيادة صورة لثلاث بنات بفيونكات يبتسمن في براءة لا تُطاق، فانقبض صدري. لن تكون صورة الشيخوخة السعيدة آخر صورة تحتفظ بها ذاكرتي. همهمت بضع كلمات غير مفهومة اعتذارا وابتعدت مسرعا عن السيارة. داس السائق على الكلاكس، يستغرب تصرفي ويستفسر أمري، فوليت ظهري كأني عائد إلى ميدان الحسين. ملّ الانتظار وسبّني سبابا لم أكد أسمعه ثم انصرف. سأنتظر سائقا آخر، إني أستحق وجها صبوحا في ليلة الوداع. أصبحت أشرئب كلما لاح تاكسي من بعيد أحاول أن أتبين ملامح السائق، لعله الغازي الكريم الذي سأتحفه بمهمة إيصالي إلى شقتي.


كنت أنتظر حتى تمرّ السيارة أمامي وتهدّئ من سرعتها فينظر إليّ السائق مستفسرا بحركة اليد ذات الأصابع المضمومة المنتصبة في نصف دورة نافدة الصبر، وكنت أتظاهر بالانهماك في التفرج على مشاهد الميدان، إذ أجده لم يستوفِ الشروط الجمالية القاسية التي وضعتها ولن أتهاون بها، حتى يتركني. ليكن سائقي أجمل وأحسن وأضوأ سائق في القاهرة، والا بلاش. بعد مرور نصف ساعة وعدد غير قليل من السيارات، عزّ اصطباري وكدت أركب سيارة لا تقل عن صاحبها الكركوب تهدما، حين ظهرت خلفه سيارة فيات جديدة يقودها شاب فتى مبهج الهيئة. تغافلت عن العجوز وظننت أني رزقت بمنيتي. صرخت اسم المنطقة التي أقيم فيها، «فيصل»، أعني في الواقع «هيت لك»، آملا في أن يُقدّ قميصي من دبر ومن قبل وبالورب كذلك. ولكن قبل أن أفتح الباب، شدت عيني مجموعة هائلة من الآيات القرآنية ألصقت على كل مساحة خالية في داخل التاكسي، وعرفت أنّ روح الهيبة التي سيبعث بها هذا الديكور الصارم لا يمكن أن تساعدني على تنفيذ نواياي، فأعتقت فريستي.


مرت نصف ساعة أخرى تتابعت أثناءها شتى ألوان المكسحين والمغضوب عليهم، حتى ظهر أخيرا سائق كامل الأوصاف. كان حقا لقطة. شاب وسيم أطلق لحيته منذ أسبوع أو يزيد، تكسو خديه الأسيلين ببساط أسمر يَعِدُ بخشونة ناعمة، وضع على اللوحة أحدا من هذه القلوب البلاستيكية الكهربائية ذات الأنوار الحمراء والخضراء تشتعل وتنطفئ على إيقاع خفقان قلبي الملهوف، وجهاز ستيريو مدهش الحجم قد زيّن بأصناف من الأزرار المضاءة واللُمَض الوامضة، تعتريك الحيرة لو سئلت عن فائدتها، يبث صوت إيهاب توفيق يغني «قمرنا» تسمعه جليا من الدراسة إلى ميدان العتبة. كان اختيارا موفقا. عندما قلت له «فيصل» توقف في الحال إذ كانت تلك المسافة الطويلة تعني عنده خمسة جنيهات، أما أنا فتمنحني نصف ساعة كاملة لتطبيق الخطة.


وطدت النية على الهجوم المباشر، فلا وقت لي لأضيعه في الأناة والتريث اللازمين عادة في مثل هذه العمليات الدقيقة. كانت الفكرة الرئيسية بدء دردشة بريئة يمكن تحويل مجراها بسهولة حتى أستدرجه إلى مواضيع صارخة المجون في أسرع وقت ممكن، وتترك مع ذلك مجالا لارتداد استراتيچي طارئ، تفاديا لاحتمال طردي من السيارة في وسط شارع السودان، أو تعرضي للضرب بالكوريك من طرف سائق مخدوش الحياء. تجرأت:

- أكيد اللي بيسوق بالليل بتحصل له مغامرات...

رمقني بإحدى تلك النظرات التي تقول »هات م الآخر« تصاحبها ابتسامة نصف مرسومة ورفعة خفيفة للحاجب الأيسر:

- مغامرات من ناحية إيه؟

كان قد فقسني. تيقنت أنه يدرك مغزاي منذ أول ثانية فتقهقرت حتى أتأكد أن السنّارة غَمَزت:

- يعني ناس غريبة الشكل، حاجات كده...

رأى دون شك أني أخرّم، وأراد أن يعيدني إلى الطريق المستقيم بإشعاري أنه لا يتذوق هذا الحديث العام وينتظر الوصول إلى لب الموضوع، فردّ علي بردود مقتضبة جافة كانت تنفي جفاءها في الوقت نفسه نظراته النفاذة الحلوة السخرية. أخذ يترقب لحركتي المقبلة.

- يعني، مغامرات مع حريم مثلا...

- آه، بتحصل.

رد مختصر، نظرة الجارح الذي يعلم تمام المعرفة أنّ الغنيمة ستقع لا محالة. حتى الكلام عن النساء اللواتي وقّعهن في سيارته لم يستهوه، كان إحجامه عن متابعة الحديث أفصح تحريض على إفراغي ما في جعبتي. كنا قد اجتزنا وسط البلد وأشرفنا على ميدان التحرير، والسائق لا يزال يلوذ بصمت مثير. جعلت أرتعش في عصبية، فسلمت أمري لله مقامرا:

- ومع أولاد كمان؟

يا حلاوة... ارتسمت على وجهه ابتسامة من الأذن إلى الأذن واكتفى بأن يعلق:

- آدينا دالوقتي بنتكلم جدّ.

- أمّال...

عند مدخل كوبري قصر النيل، أخذ يدي ووضعها بين فخذيه. ضحك الأسدان الحجريان فتحسست على زبره الواقف تحت قماش الچينز الكثيف، داعبته حينا ثم أخذت أفك الأزرار واحدا واحدا، أقفّش في بتاعه عبر القطن المشدود، أقرص الرأس مرة وأمسك ، بالجذع مرة. طلب مني أن أخرجه، فبدا لي رجاؤه طبيعيا ومشروعا في وسط ليل الجزيرة فرأيت أن ألبيه على الفور. كان بتاعه قصيرا غليظا اسطمبولي الشكل متينا. أخذت أسرتن له، ثم أكف وتهيجني رجاءات الاستئناف التي يُصدرها بصوت خافت مبحوح.

- عندك شقة فاضية؟

- لأ. ما تدبّر لينا مكان ع الطريق، أنت اللي أدرى بقى، دي شغلتك.

- أصل انا من روض الفرج، اعرفها شبر شبر، لو كنا هناك كنت خدتك شارع ضلمة وياللا. بس هنا، ماباعرفش غير الشوارع الرئيسية.


أين؟ عندما دخلنا شارع الملك فيصل، وزبر سائقي الخفاق ما زال بين أصابعي، أخذت أبحث عن مكان ملائم ولم أَرَ غير «مساكن منتصر». بدأت أتساءل عما أريد منه أصلا. إن الموقف، وما فيه من اختراق وقشعريرة خوف عابر من عواقب غير مرجحة، كان من اللذة بحيث لا أشعر بأي رغبة في الانتقال من مرحلة اللمم إلى الفحشاء الشنعاء (التي كان من المحتمل جدا أن أصبو إليها في ظروف مغايرة). أما السائق، فكانت صلابة عضوه منذ سوق الدقي وطوال شارع التحرير توحي بأن على باله ما يتعدى بمدى ملحوظ ما أكرمه به. والشيء الأكيد أنه لم يكن ليمسك عضوي أنا ليبادلني المداعبات السرتنوية. انتابني شعور بأن ما تحتوي عليه أحلامي الجنسية من ممارسة فعلية إنما يثيرني طالما لم يحدث ويصبح عند تحققه زائدا على الموقف، فائضا على عذوبة الكلمات المثيرة، كأن إعلان النية فيه ما يرضيني دون التطبيق، كأن في حمّى القنص والنجاح في إيقاع الفريسة في الشرك ما يفوق المتعة الجنسية المتشابهة المتكررة أبدا. كان هذا السائق تجسيدا لحلم الذكورة العسلية العينين الذي يراودني ليل نهار في القاهرة، فمن المفروض أن أجرع الكأس حتى الثمالة الانتياكية المرتقبة فأركع أمامه متوسلا حتى يملأني برجولته الغزيرة، ولكن عندما سنحت الفرصة تذكرت أن انتياكي لم يسبق أن لذّ لي كما في المستحلم من الأحلام، وأنّ إنجاز ما اسثرت السائق به لن يكون إلا، في أحسن الحالات، قياما بواجب ممل، وأن الڤيروس الرباعي الحروف ما زال حائما في قيعان المدينة، وأن المحاولة الوحيدة لردعه تتمثل في هذه اللافتة اليتيمة المنتصبة في آخر شارع قصر النيل والمرسوم عليها موكب من المواطنين الواعين (منهم المحجبات المحصنات اللواتي يسهرن على صلاح المجتمع، يذكّرن بسيدات ثورة 1919 وإن استعيض اللورد كرومر بعدوّ أحدث لا يقل عن سابقه خبثا وخواجيّة وخروجا عن العادات والتقاليد الشرقية التي هن [أي المحجبات] أطهر حُماة حصنها الحصين) يسيرون واثقي الخطى في مظاهرتهم الشعبية الوقورة، ينهون عن منكر لا تكاد تتصوره أذهانهم الورعة، حاملين رايات كُتب عليها هذا الشعار المفحم: «لا للرذيلة».


فبحثت في جيوبي ولم أعثر إلا على عازل من النوع لذي يوزع مجانا على مدخل النوادي «الجاي» في باريس، كان معطرا بالجوز الهندي خصيصا للمص. كنت محتفظا به آملا في لقاء عاشق يجمع بين حب بتاعي و الجوز الهندي فأضرب عصفورين بحجر واحد بينما يضرب هو حمامتي بعشرة، وعلمت لحظتئذ أني سأعبق أنا لاحقا بروائح الأم علي.


لم يطالبني بالأجرة.


Aucun commentaire: